[ هذه المادة هي جزء من ملف خاص بعنوان "كبرت النكبة". وهو ملف متنوّع حول نكبة فلسطين ستقوم "جدلية" بنشره على مدار الأسبوعين القادمين.]
في روشميا براكية وسجائر بيتية تُلف على مهل وبعناية تضاهي فن تحضير طبق ورق عنب مشتهى، ُتلتهم ببطء ، بمزاج المتأملين الرابضين في العزلة. عزلة خاصة بالرافضين والصابرين ، تُمارس بصمت اختياري، دون طقوس أو شعارات. هكذا يعيش يوسف حسان (أبو العبد) وآمنة أبو فودة (أم سليمان) في براكيتهم في وادي روشميا منذ 1959. يسكنان زمانية السكان الأصليين الصامدين في الهاوية رغم عنف الاستعمار ومشاريع حداثته الكولونيالية المبنية على الاستيطان وهدم البيوت واقتلاع الجذور ومحو الذاكرة: النكبة. هكذا توثقهما كاميرا المخرج سليم أبو جبل في فيلمه الأخير (روشميا -2014) الذي تم تصويره لمدة خمس سنوات هرم فيها أبو العبد وأم سليمان ، وهرمت النكبة معهما.
في روشميا براكية ومنزل مؤقت للفلاح الذي صار لاجئاً خارج المخيم. في البراكية حيز مرتجل لثنائية هذا الفلاح- اللاجئ سقف من القصدير مثّبت بإطارات قديمة لا تصلح للسير ولا تأخذ من يسكن تحتها لأي مكان ، وبابور، وحاكورة تموت فيها أغصان شجرة الليمون مبكراً . في المطبخ المفتوح أكياس بلاستيك تستبدل الرفوف و عبوات مسحوق غسيل فارغة تحفظ الزيت والزيتون والمكابيس والمونة ومواعين فردية ملوّنة وحوايجات أم سليمان (أو "روابشها" على حد قول أبو العبد). في البراكية أرشيف لاقتصاد معيشي يشهد تارةً "الكنيون (المجمع التجاري) لم يمّر من هنا" ويحتّج تارةً "الكنيون لن يمّر من هنا!" وفي الحالتين تتجلى العتبة بين الصمود والمقاومة.
في روشميا براكية وذاكرتان ونكبتان. أم سليمان لاجئة من يازور. تعود لجغرافية فلسطين قبل النكبة لتبدأ روايتها. تحّدد مكان يازور في خريطة شفوية غير مجعّدة ترصد فيها قرى ومدناً أخرى تم تدميرها وترحيل أهلها، اليبنة وتل الترمس وإسدود. تستخدم الفعل المضارع لتعدّد خيرات الأرض في بلدها: التوت-الإجاص- البيارات- الملفوف- الخس- الملوخية والليمون الحلو. سردها تقريري ، ولكن عندما تذكر عَمار يازور تَغمر صوتها بهجة َ الفلاحة المعتزة بخصوبة أرضها .تلجأ للفعل الماضي لتصف مسار تشرّد أسرتها من يازور فغزة فالبريج فالخليل وحيفا من بعدها. تضيف ببرود "لفينا بلادنا". لغتها إخبارية خالية من التراجيديا، الرومانسية ، مُحاورة الكاميرا، أو المصالحة مع الواقع رغم إدراكها أنّّ "البلد راحت". ومع ذلك لا تخفي الحدة في صوتها وتورد وجنتيها غضباً عندما يختلط الماضي بالحاضر لتصف حال يازرو الآن "هادين دورنا وهادين كل شي، وراميين مواتنا وزارعين مطرحهم مندلينا. رموا أمواتنا اللي بقوا مسّترين بقبورهم. رموهم!"
أبو العبد لاجئ من وادي الصليب في حيفا. لا يتغّنى بالبحر أو الكرمل ولكن يروي قصة تعذيبه في سجون الاحتلال في عكا وخروجه من الطيرة بعد سقوطها. يتحسّر على الملهى الليلي الذي بُني على أنقاض بيت عائلته قبل ترحيلها. يصرخ "كان عندنا قصر! ما كان عندنا براكية أو دار. قصر!" يدافع أبو العبد عن تشبثه بالبراكية وأسلوب حياته البسيط فهو "عايش عالبركة ومبسوط". يبكي أبوالعبد على براكيته المهُددة بالهدم وتدهور علاقته مع أم سليمان وتنسدل الدموع على الشقوق في وجهه كقطرات الندى. يمسحها بهدوء.
كعادة الكثير من الأزواج المسنين (والشباب) يتشاجر أبو العبد وأم سليمان على كل شيء:الحطب الأنسب للاشتعال ، طعم البرتقال وتفاصيل أخرى في الحياة اليومية .
ويتشاجران أيضاً في موقفهما المغاير من مقترح تسوية مع الحكومة (أو الدولة أو اليهود ) وإمكانية الحصول على تعويض مادي عن البراكية ومصيرهمها بعدها. بينما يصّر أبو العبد على أنه يفضّل الموت في البراكية على الرحيل عنها، تتخيل أم سليمان سيناريوهات مختلفة لرحلتها الجديدة بعد التشرّد الجديد. ترسم مسارتها بثقة اللاجئة المتيقّنة من ديمومة الرحيل بعد الترحيل. ولكن رغم خلافات أبو العبد وأم سليمان ونكبتهما المختلفة، إلا أنهما يتفقان في أمر واحد: كلاهما لا يخاف من الوحدة في الظلام في وادي روشميا!
في روشميا صدى حطام براكية يدفن صدى راديو أبو العبد ومحطة دمشق التي كان يستمع إليها دائما وصدى أدعيته وهي تتوعد أمام الحكومة بانتقام إلهي ممن هدموا منزله.في روشميا مشاهدون فلسطينيون يتابعون عمل جرافة نشيطة قائدها قد يكون فلسطينياً مثلهم. في روشميا حطام براكية ومشاهدون فلسطينيون يدخنون سجائر أجنبية بشراهة أمام مشهد يومي للترحيل البطيء. مع كل سيجارة يحاولون التآمر ضد الوقت عساهم يحرقوه قبل أن يحرقهم وهم جالسون في غرف الانتظار وفي مكاتب لجنة التنظيم والمحامين ودهاليز المحاكم وخيم الاعتصام في العراقيب ودهمش وأم الحيران والشيخ جراح وقلنسوة وسلوان...و..
في روشميا حطام براكية في حيفا يظهر على شاشة كبيرة بين الخراب والبراكيات الجديدة في حي الشجاعية في غزة خلال العرض العمومي لمهرجان أفلام كرامة لحقوق الإنسان ..من حيفا إلى غزة وإلى اليرموك، براكية تحاكي براكية والنكبة تكبر وتنمو وتستمر...